العربية
22. 9. 2019
الأمير الصغير
تأليف: أنطوان دو سانت اكزوبري
ترجمة: يوسف غصوب
إلى ليون فيرس
أقدم اعتذاري للأطفال لأني أهديت هذا الكتاب لأحد من الكبار.
لكن لي عذري الجاد في هذا: ألا وهو أن هذا الشخص من الكبار هو أفضل صديق لي في هذا العالم.
ولي عذر آخر: أن هذا الشخص من الكبار بوسعه أن يتفهم كل شيء، بما فيه كتب الأطفال.
ولي عذر ثالث: أن هذا الشخص من الكبار يسكن في فرنسا حيث يعاني من الجوع والبرد.
وهو بحاجة لمن يواسيه.
ولكن، إن لم تكفي كل هذه الأعذار، فإني أرغب تقديم هذا الكتاب لهذا لطفل الذي كانه يومًا ذاك الإنسان
الكبير.
لأن كل الكبار كانوا ذات يوم أطفالًا. (وإن كان القلائل منهم يتذكر هذا).
لذلك أصحح إهدائي الذي أقدمه:
إلى ليون فيرث حين كان طفلًا صغيرًا.
1
رأيت، وأنا في السادسة من عمري، صورة رائعة في كتاب عن "الغابة العذراء" يدعى "قصص حقيقية"
وكانت الصورة تمثل ثعبانًا (بُوَا) يبتلع وحشًا. في أعلى الصفحة نسخة عن تلك الصورة.
وقرأت في الكتاب: "أن الثعابين تبتلع فريستها بالكامل، من دون أن تمضغها، فإذا ابتلعتها عجزت عن كل
حركة ونامت مدة سّتة أشهر حتى تنتهي من هضمها.
وبعد أن فكرت مليًا فيما يقع في الغابات من الحوادث أخذت قلمًا فيه رصاصة ملونة وخططت أول رسم
رسمتُه وهو كما ترى.
ثمّ أريتُ باكورة فّني الكبار من الناس (أعني الكبار في السن) وسألتهم قائلًا: أما يُخيفكم هذا الرسم؟
فأجابوا: متى كانت القبعة تخيف الناس؟
ما كان رسمي يمّثل قبعة بل ثعبانًا يهضم فيلًا. ثم رسمت باطن الثعبان عسى أن يفهم الكبار فإنهم في
حاجة دائمة إلى الإيضاح. وكان رسمي الثاني كما ترى.
فلما أبرزته لكبار الناس تنصحوا لي بأن أدع جانبًا رسم الثعابين من الخارج والباطن وقالوا: الأفضل لك
أن تعنى بدرس الجغرافية والتاريخ والحساب وقواعد اللغة، فأهملت، وأنا في السادسة من عمري، مستقبلًا
باهرًا في فن التصوير لأن رسمي الأول والثاني لم يروقا كبار السن. إن هؤلاء الكبار لا يدركون شيئًا من تلقاء نفوسهم فلا بد للصغار من أن يشرحوا لهم ويطيلوا الشرح ويكرّروا. ولا يخفى ما في هذا من التعب والعناء.
اضطررت إلى اختيار مهنة أخرى، فتعّلمت قيادة الطائرات و طرت هنا و هناك في مختلف أنحاء العالم.
ومما لا ريب فيه أن الجغرافية كانت لي خير معوان في طيراني، فكنت أفرّق ،لأول وهلة، و من دون أي
تردد، بين بلاد الصين و أريزونا. و في هذا فائدة جّلى ولا سيما إذا ضلّ الطائر طريقه في الليل.
واتصلت، في مجرى حياتي، بكثير من أهل الرزانة و الوقار، ولابست كبار الناس ملابسة حميمة، غير
أن سوء رأيي فيهم لم يتبدل تبدلًا يذكر.
كنت إذا لقيت أحدهم وبدا أنه على شيء من صفاء الذهن امتحنته بالرسم الأول الذي احتفظت به، لأرى
مقدار ما عنده من الفطنة ، والإدراك، فإذا قال : "هذي قبعة" أضربت عن الكلام على الثعابين و الغابات
العذراء و النجوم، وإنحططت إلى مستوى فهمه فحدثته عن "البردج" وعن "الغولف" وعن ربطة العنق
وفي السياسة، فيسرّ سرورًا كثيرًا لتعرّفه إلى رجل على هذا الجانب من التعقل.
2
و ظللت هكذا وحيدًا لا أجد من أتحدث إليه حديثًا صادقًا حتى اليوم الذي تعطلت فيه طائرتي في
الصحراء و قد مرّ على هذا الحادث ست سنوات. وكان العطل في المحرك و لم يكن في الطائرة
ميكانيكي و لا ركاب، فتأهبت لإصلاح العطل بنفسي على ما في إصلاحه من الصعوبة، على أن في
إخفاقي أو نجاحي موتي أو حياتي. ولم يكن لديّ من الماء إلا ما يكفيني مدة ثمانية أيام.
نمت في الليلة الأولى على الرمل و بيني و بين أقرب بلد آهل ألف ميل، فكنت في عزلتي أشد انفرادًا
من غريق على طوف في عرض المحيط. و شدّ ما كانت دهشتي عندما استيقظت في الصباح على صوت
نحيل غريب يقول: ارسم لي إذا شئت، خروفًا.
قلت: ماذا؟
قال: صوّر لي خروفًا.
فاستويت على قدمي مذعورًا كمن انقضّت عليه الصاعقة، وأخذت أفرك عينيّ. ثم نظرت فإذا ولد صغير
غريب الهيئة يحدق إليّ بإنعام ورصانة. وقد صورته فيما بعد صورًا عديدة غير أن الصورة التي ترى
هي أفضلها. لكنها هيهات أن تدانيه فتونًا و جمالًا. وما يرجع إليّ الذنب في تقصيري فإن الكبار قد
ثبطوا عزيمتي عن مسلك التصوير يوم كنتُ في السادسة من عمري، وما كنت تعلمت من هذا الفن سوى
رسم الثعابين من ظاهرها و باطنها.
نظرت إلى هذه ال"رؤيا" بعينين ملؤهما الدهشة والحيرة. ولا غرابة فأنا على بعد ألف ميل عن كلّ ناحية
معمورة وما من شيء يدل على أنّ هذا الولد ضلّ طريقه أو أنه يهلك جوعًا أو عطشًا أو أنه يموت عياءً
أو خوفًا، و ما من شيء ينبئ أنه ضائع في قلب هذه الصحراء على بعد ألف ميل عن كلّ بلد آهل.
ولما عاد إليّ روعي واستطعت الكلام قلت: وأنت... ماذا تصنع هنا؟
فلم يجب على سؤالي بل كرّر عليّ طلبه الأول وكأنّه يعلق عليه أهمية كبيرة.
قال: أرسم لي، إذا شئت، خروفًا.
فحيال هذا السرّ الغامض الذي أّثر في نفسي تأثيرًا بليغًا ما جرؤت على عصيان أمره بل تأهّبت لتلبيته
على ما فيه من الغرابة في مكان يبعد ألف ميل عن كلّ بلدِ معمور وعلى ما يحيق بي من خطر الموت.
فأخرجت من جيبي ورقة و قلم الحبر ثم ذكرت أّني درست على الأخص الجغرافية و التاريخ و الحساب
و قواعد اللغة. فقلت للولد الصغير بنبرة فيها شيء من الامتعاض: إّني لا أحسن الرسم.
فقال: لا بأس في ذلك. ارسم لي خروفًا.
و لم أكن رسمت من قبل خروفًا فرسمت له أحد الرسمين اللذين في متناول قلمي. وهو رسم الثعبان في
هيئته الخارجية. وما أشدّ ما كانت دهشتي عندما سمعت الولد يقول: لا، لا. أنا ما أردت فيلًا في ثعبان.
فالثعبان شديد الخطر، أما الفيل فيضيق به موطني. إن موطني صغير، صغير جدًا. أنا بحاجة إلى
خروف، فأرسم لي خروفًا.
فرسمت له خروفًا.
فأنعم النظر فيه ثم قال: لا، لا. هذا خروف مريض. وقد تفاقم مرضه فأرسم لي غيره.
فرسمت له غيره.
فابتسم ابتسامة حلوة وقال مترفّقًا بجهلي: ألا ترى ... ليس هذا خروفًا. هذا كبش ذو قرنين.
فرسمت له خروفًا آخر. فلم يرض عنه بل رفضه كما رفض الخروفين السابقين وقال: هذا خروف قد
شاخ وأنا أريد خروفًا فتيًا يعمِّر طويلًا.
ففرغ عندئذٍ صبري وكنت أنوي الإسراع في تفكيك المحرّك فخربشت له الصورة التي ترى
وقلت: هذا هو الصندوق. أمّا الخروف ففي داخله. ونظرت إليه فإذا وجهه يتهلّل حبورًا، فعجبت لأطوار
هذا الولد الذي جعل نفسه حكمًا في تصويري. ثم قال: هذا ما كنت أبتغي. ولكن أتراه يحتاج إلى كثير من
العشب؟
قلت: ولماذا؟
قال: لأنّ موطني صغير جدًا.
قلت: مهما كان صغيرًا فكن على يقين من أنّ عشبه يكفيه فإني أعطيتك خروفًا على غاية من الصغر.
فحنا رأسه على الرسم وقال:
لا أراه صغيرًا بقدر ما تتوهّم ... أنظر فإنه قد نام.
هكذا عرفت الأمير الصغير.
3
قضيت مدّة طويلة قبل أن أعرف من أين كان مجيئه. فإنّ هذا الأمير الصغير كان يلقي عليّ الكثير من
الأسئلة ولا يصغي إلى ما أطرح عليه منها وما عرفت عنه ما عرفت إلّا من خلال ألفاظ كان ينطق بها
مصادفة. ومن ذلك أنّه عندما رأى طائرتي لأول مرّة (لا أرسم الطائرة فرسمها معقد يعجز عنه قلمي)
سألني قائلًا: ما هذا الشيء الذي أرى؟
وكنت فخورًا عندما أنبأته بأني أطير.
فصاح عندئذٍ: ماذا! أتكون هبطت من السماء؟
قلت متواضعًا: نعم.
قال: زه. زه. هذا أمر غريب.
ثم ضحك الأمير الصغير ضحكة صافية امتعضت منها امتعاضًا كثيرًا فأنا أكره الاستخفاف بما ينزل بي
من المصائب. ثم أردف قائلًا : وأنت أيضًا أتيت من السماء! فمن أيّ الكواكب أنت؟
فعلى ضوء كلامه هذا انكشف لي شيء من سرّ وجوده في تلك الصحراء فبادرته قائلًا:
أتكون هبطت من أحد الكواكب ؟
فلم يجب و أخذ يهز رأسه هزًّا وئيدًا وينظر إلى طائرتي ثم قال:
ما أراك تستطيع المجيء من بلد قصي على مثل هذه الطائرة ...
ثم استسلم لبحران متماد. ولمّا آب من بحرانه أخرج الخروف من جيبه وجعل ينظر إلى "كنزه" ويتأمّله
تأمّلًا عميقًا.
إنّ ما فاه به الأمير الصغير عن "الكواكب الأخرى" أثار فضولي وزاد في حيرتي فحاولت أن أعرف عنه
فوق ما عرفت فقلت:
من أين جئت يا عزيزي الصغير؟ وأين موطنك؟ وإلى أين تذهب بالخروف؟
ففكر قليلًا ثم قال:
من حسنات هذا الصندوق الذي أعطيتني إياه إنه يصلح أن يكون له مأوى في الليل.
قلت: هذا مما لا ريب فيه. وإّني لأعطيك إن كنت لطيفًا، حبلًا لتربطه في النهار ثمّ وتدًا.
وكأنّه اغتاظ مما عرضت عليه فقال: أيربط الخروف ؟ إنّها لفكرة غريبة!...
قلت: إن لم تربطه ذهب في كلّ مذهب وضاع.
فأغرب صديقي الصغير ضحكًا ثم قال: وأين تراه يذهب؟
قلت: يذهب في كلّ مذهب، يذهب توًا في اتجاه وجهه.
فترضّ الأمير الصغير وقال: لا بأس في ذلك فإنّ موطني على غاية من الصغر.
ثم أردف بصوت فيه بعض الكآبة: من سار في اتجاه وجهه لا يبعد كثيرًا.
4
وعرفت هكذا شيئًا آخر ذا شأن عن كوكبه وهو أنّ هذا الكوكب يكاد حجمه لا يتجاوز حجم بيت من
البيوت. وما كنت لأعجب لهذا الأمر، ففي الفضاء ما عدا السيارات الكبرى التي سميت بأسمائها كالأرض
والمشتري والزهرة والمريخ، مئات من السيارات الأخرى، بعضها على جانب من الصغر يصعب معه
رؤيتها حتّى بالمجهر.
فإذا اكتشف فلكيٌّ سيارة منها أعطاها بدل الاسم رقمًا فدعاها مثلًا السيارة رقم 3251.
أعتقد أنّ الكوكب الذي جاء منه الأمير الصغير هو الكوكب رقم ب 612 ويرتكز اعتقادي على أسباب
وجيهة. فإنّ هذا الكوكب لم يُرَ في المجهر إلا مرة واحدة في سنة 1909 وكان الذي رآه فلكيًّا تركيَّا.
أثبت الفلكي اكتشافه بأدلّة قاطعة في مؤتمر فلكي دولي غير أنّه لم يجد من يصدقه لأنّه كان مرتديًا ثيابًا
تركية، وهذا دأب الكبار فما الحيلة؟
ثم إنّه، لحسن طالع الكوكب رقم ب 612 ، قام في تركيا "دكتاتور" فرض على الشعب، تحت طائلة الموت،
ارتداء الألبسة الأوروبية، فارتدى الفلكي التركي لباسًا أوروبيًا أنيقًا، وأدلى في سنة 1920 ببيانه وأدلّته
عن اكتشافه، فانضمَّ الجميع إلى رأيه هذه المرة.
قصصت عليكم قصة الكوكب رقم ب 612 بتفاصيلها وأطلعتكم على رقمه وذلك لأنّ الكبار يحبّون الأرقام.
فإذا حدّثتهم عن صديق عرفته حديثًا أغفلوا مزاياه الجوهرية ولم يسألوك عن رقّة صوته ولا عمّا يؤثر
من الألعاب ولا عن رغبته في جمع الفراشات بل يسألونك: في أيّة سنة هو، وكم عدد إخوته، وكم وزنه،
وكم يربح أبوه؟ فإذا عرفوا كل هذا اعتقدوا أنّهم عرفوه.
وإذا قلت للكبار: "رأيت بيتًا جميلًا مبنيًا بالقرميد الأحمر وعلى نوافذه الرياحين وعلى سطحه الحمائم..."
عجزوا عن تمثّل ذلك البيت، فإذا أردت الإيضاح وجب عليك أن تقول "رأيت بيتًا قيمته ألف دينار"
فيصيحون قائلين: "ما أجمل هذا البيت!". وإذا قلت لهم: "دليلي على أنّ هذا الأمير الصغير قد وجد حقًّا هو
أنه كان فاتن الطلعة وأنه كان يضحك وأنه كان يريد خروفًا ومجرد أنه يريد خروفًا دليل على وجوده".
إذا قلت لهم ذلك هزّوا أكتافهم ورفعوها وقالوا: أنك ولد صغير...
أمّا إذا قلت لهم: "إن الكوكب الذي جاء منه الأمير هو الكوكب رقم ب 612 " اقتنعوا بكلامك وتركوك
وشأنك ولم يزعجوك بأسئلتهم. هم على هذا الدأب فلا لوم عليهم وما على الأولاد إلا أن يتجملوا ويعاملوا
الكبار بالحلم والصبر. هذا هو الواقع أمّا نحن فنفهم معنى الحياة، ولا غرابة في أن نستخف بالأرقام. كنت
أودّ لو بدأت هذه القصة كما تبدأ قصص الجنيّات فأقول:
كان في قديم الزمان أمير صغير يقطن كوكبًا لا يزيد حجمه عن حجم الأمير إلا قليلًا. وكان بحاجة إلى
صديق...
فلو بدأت قصتي هكذا لكانت في رأي من يفهمون معنى الحياة، أقرب إلى الصواب والحقيقة. أنا لا أحبّ
أن يقرأ الناس كتابي قراءة طائشة و أن يستخفوا به، فإني أحسّ غمًّا شديدًا عند كتابة هذه الذكريات. مرّت
ست سنوات على فراق صديقي وذهابه بالخروف الذي رسمته له. فإن وصفته هنا فما ذلك إلا خوف
نسيانه، ومن المؤسف أن ينسى الصديق صديقه فالأصدقاء قليل، وقلّ من له صديق. وقد أُصبح غدًا
كالكبار من الناس الذين لا يهتمّون مقا الأرقام. فلهذي الأسباب جميعًا اشتريت علبة صباغ وأقلامًا
وعدت إلى التصوير، وقد وجدت صعوبة في العودة إلى هذا الفن بعد أن بلغت من العمر ما بلغت.
ما كنت من قبل حاولت رسم شيء سوى رسم الثعبان من الظاهر ومن الباطن، وكنت عندئذٍ في السادسة
من عمري، مهما يكن من أمر فإني سأبذل الجهد في تصوير الأمير صورًا تكون على قدر المستطاع
كثيرة الشبه به. وما أنا واثق من بلوغي هذه الغاية فقد أوفق في بعض الرسوم، وأخفق في البعض
الآخر.ومما لا شكّ فيه أّني أخطئ قليلًا في القياسات ففي هذه الصورة يبدو الأمير أكبر مما يجب وفي
تلك أصغر مما ينبغي، وأتردد أيضًا في لون ثوبه فألتمس اللون الحقيقي فأصيب تارة وأخطئ أخرى. ولا
غرابة في أن يزل قلمي في بعض التفاصيل الهامة فأرجو المعذرة على هذا الزلل فتبعته لا تقع عليّ بل
على الأمير الذي ما كان ليوضح شيئًا من أمره، ولعله كان يحسبني شبيهًا به قادرًا على اكتشاف
الغوامض. وما كان في استطاعتي، لسوء طالعي، رؤية الخرفان من وراء خشب الصناديق، فقد أكون
مشبهًا للكبار من الناس، ولا بدع فإنّي قد كبرت عن سنّ الحداثة.
5
في كلّ يوم يمرّ كنت أطّلع على شيء جديد من أحوال الكوكب الذي هبط منه الأمير الصغير، فيومًا
أعرف كيف كان خروجه منه، ويومًا أعرف كيف كانت رحلته. وكنت ألتقط هذا التقاطًا من مجرد الانتباه
إلى ما يبدي من الآراء. في اليوم الثالث عرفت على هذه الطريقة قصة البوبابات*!
كان الفضل، هذه المرّة أيضًا، عائدًا إلى الخروف في إطلاعي على هذه القصة، فإنّ الأمير الصغير
فاجأني على حين غرّة بسؤاله قائلًا: أصحيح أنّ الخرفان تأكل صغار الشجر؟ وبدا كأنّه في ريب من
صحة الأمر. قلت: هذا أمر صحيح لا شكّ فيه.
قال: ما أسعدني إذًا! ولم أدرك ما همه أن يأكل الخرفان صغار الشجر، غير أنّه أردف قائلًا: إذا أكلت
الخرفان صغار الشجر، فهي تأكل كذلك البوبابات؟ فقلت له: أنّ البوبابات ليست من صغار الشجر بل هي
من عظامها. يعدل حجم الواحدة منها حجم الكنيسة، فلو ذهبت إلى موطنك بقطيع من الفيلة. لما أتى هذا
القطيع على بوبابة واحدة. فضحك الأمير الصغير عندما تصور في ذهنه قطيع الأفيال في موطنه ثم قال:
إذن لا بدّ من أن نضع الأفيال بعضها فوق بعض.
ثمّ استدرك وقال: أنّ البوبابات تبدأ صغارًا ثمّ تكبر. قلت: هذا صواب. ولكن لماذا تريد أن يأكل الخرفان
البوبابات الصغار؟
فأجابني: أيخفى عنك ذلك؟ فكان كمن يقول: إنّ الأمر على غاية من الوضوح. أمّا أنا فأعملت الفكر
طويلًا حتّى حللت هذه المشكلة من تلقاء نفسي.
والواقع أنّ كوكب الأمير الصغير كان مشتملًا كسائر الكواكب على أعشاب مختلفة، منها الصالح ومنها
الطالح، وعلى بذور لها صالحة وطالحة. أمّا البزور فلا تُرى! منها ما ترقد في ضمير الأرض إلى أن
يخطر لإحداها أن تستيقظ فتهب من رقدتها وتتمطى ثم تدفع على خوف نحو الشمس أشطاءً ندية لا خطر
فيها. فإذا كان أشطاء فجلة أو ريحانة تُركت لشأنها ونمت كيف شاءت أمّا إذا كانت عشبة نبتة طالحة
وجبت المبادرة إلى اقتلاعها فور عرفانها. وكان في كوكب الأمير الصغير بزور فظيعة هي بزور
البوبابات وكانت تملأ أرض الكوكب، فإذا نبتت إحداها وتُركت ولم يُؤبه لها اشتدت وقويت ثمّ استحال
التخلص منها ثمّ عمّت أرض الكوكب وغرزت جذورها فيه. فإن كان الكوكب صغيرًا وكانت البوبابات
كثيرة فجّرت الكوكب وذهبت به. وقد قال لي الأمير فيما بعد: "القضية قضية دربة وانتظام، فإذا انتهى
المرء في الصباح من تنظيف نفسه وإصلاح حاله، وجب عليه أن يُعنى بتنظيف كوكبه، فيلزم نفسه اقتلاع
* البوبابة شجرة من أشجار المناطق الحارة تعظم كثيرًا.
البوبابات حالما يفرّق بينها وبين الرياحين، فإنها جميعًا تتشابه كثيرًا في أوّل نبتها. وهذا عمل فيه بعض
الملل وإن يكن من السهولة بمكان".
ونصح لي يومًا بأن أبذل الجهد في رسم صورة جميلة يسهل معها إدخال هذه المبادئ في رؤوس أولاد
بلادي. وقال: "إذا كانوا يومًا على سفر فلا يبعد أن يجنوا منها ثمارًا مفيدة. قد لا يضير المرء أن يؤجل
عملًا أمّا إذا كان عمله اقتلاع البوبابات في مهودها ففي تأجيل عمله الكارثة الكبرى. عرفت كوكبًا كان
يقطنه ولد كسول فتهاون في اقتلاع ثلاث شجرات صغار...".
رسمت هذا الكوكب معتمدًا ما أخبرني عنه الأمير الصغير. أنا لا أحبّ الوعظ كثيرًا غير أنّه قلّ من
يعرف خطر البوبابات وما يتعرض له المرء من المهالك إذا قاده القدر يومًا إلى كوكب صغير. ولهذا أشّذ
عن خطّتي في تجنّب الوعظ وأقول: "أيّها الأولاد، حذار، حذار من البوبابات!"
هذا وما عنيت كلّ العناء في رسم هذه الصورة إلا رغبة مني في إنذار أصدقائي بخطر يحوم حولهم كما
حام حولي وهم في غفلة عنه، فلهذه الموعظة، كما ترون، قيمة لا يستهان بها. وقد تقولون متسائلين: ليس
في هذا الكتاب رسوم تعادل بروعتها وعظمتها صورة البوبابات. فلمَ هذا الإهمال! فأقول: قد حاولت ولم
أنجح، أمّا صورة البوبابات فكان العامل الأكبر في إجادتي رسمها شعوري بالحاجة إليها.